الذكاء الاصطناعي ببساطة

صناعة الصور بالذكاء الاصطناعي.. عدسة جديدة لمطالعة التاريخ أم مرآة مشوهة؟

شهدت السنوات الأخيرة قفزات نوعية في تقنيات الذكاء الاصطناعي، لا سيّما في مجال توليد الصور. نماذج مثل DALL·E التابعة لشركة OpenAI، وMidjourney، وStable Diffusion طوَّرت قدرات خارقة تتيح لها تحويل أوصاف نصية إلى صور واقعية أو فنية بتفاصيل دقيقة وإبداع بصري غير مسبوق.

هذه الأدوات لم تعد تقتصر على إنتاج صور خيالية أو فنية، بل بدأت تقتحم مجالات أكثر حساسية وتعقيدًا، من بينها إعادة تخيل المشاهد التاريخية التي لم تُوثق بصريًا من قبل، وهو ما يفتح بابًا واسعًا أمام جدل معرفي وثقافي وأخلاقي متصاعد.

أمثلة واقعية.. التاريخ يستيقظ من جديد!

في عام 2023، أطلقت قناة “Histovi” على يوتيوب مشروعًا بعنوان “History Reimagined”، استخدمت فيه نموذج Midjourney لتوليد صور تمثل لحظات من فتح الأندلس (القرن الثامن)، وحصار بغداد عام 1258، بل ومشاهد من حياة العبيد في أمريكا  بالقرن التاسع عشر، وُلِّدت اعتمادًا على أوصاف تاريخية دقيقة من المؤرخين والكتب. وفي معرض افتراضي نظَّمه متحف “الذاكرة الرقمية” في برلين، قُدِّمت مشاهد جرى توليدها عبر DALL·E لحياة اليهود في أحياء “الجيتو” بأوروبا الشرقية قبل الحرب العالمية الثانية، وهي مشاهد نادرة لم تُوثق إلا بوصف سردي في المذكرات والشهادات.

بين التعليم والذاكرة والمعرفة

الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في إعادة بناء مشاهد تاريخية يحمل قيمة تعليمية استثنائية. فقد ثبت أن التعليم البصري أكثر تأثيرًا وفاعلية في ترسيخ المعلومات، خاصة لدى الأجيال الرقمية. الصور المولدة بالذكاء الاصطناعي تمنح الطلبة رؤية تجسيدية للحظات مصيرية لم تتح إلا في النصوص. يقول الباحث في علم المتاحف د.كريستيان مولر (Müller, 2022) في بحثه المنشور بمجلة Digital Heritage إن: “الذكاء الاصطناعي لا يعيد رسم التاريخ فحسب، بل يمنحنا ذاكرة بصرية لم تُخلق في وقتها“.

كما أن هذه التقنية تُمثل أداة مهمة للمتاحف والمشاريع الوثائقية، إذ يمكن استخدامها لملء الفراغات البصرية في المعروضات أو إنتاج مواد مرئية تُقرب الجمهور من التجربة التاريخية، كما فعل متحف Museum of the Future في دبي عندما استخدم نماذج Stable Diffusion لعرض مشاهد من الحضارات السومرية والمصرية القديمة بطرق جذابة.

التحديات الأخلاقية.. حين يهدد الذكاء الاصطناعي الحقيقة!

رغم هذه الفوائد فإن الاستخدام غير المنضبط لهذه التقنية يثير تساؤلات أخلاقية جوهرية. أبرزها خطر التزييف البصري والتلاعب بالوقائع، فبمجرد أن تنتشر صورة مولدة بالذكاء الاصطناعي على أنها “حقيقية”، يصبح من الصعب على غير المتخصصين التمييز بين الحقيقة والتخيل، مما قد يُستخدم في التضليل السياسي أو إعادة كتابة التاريخ بشكل منحاز.

الباحثة في أخلاقيات الذكاء الاصطناعي د.سامانثا غروسمان (Grossman, 2023) تحذِّر في مقالتها المنشورة بـAI & Ethics Journal من أن “إعادة إنتاج مشهد تاريخي باستخدام الذكاء الاصطناعي دون إرفاق سياق واضح أو توضيح تقني قد يخلق طبقة جديدة من الخداع التاريخي، لا تقل خطرًا عن تزوير الوثائق المكتوبة”. من جهة أخرى، عبّر بعض المؤرخين عن قلقهم من أن الاعتماد المُفرط على هذه التقنيات قد يُهمِّش دور التأويل البشري والسياق الثقافي، لصالح تصور بصري قد يُخضع التاريخ لقواعد الجماليات الحديثة أو الرغبات السياسية.

صناعة الصور بالذكاء الاصطناعي

تمثيل بصري لموضوعات مقدسة!

وهناك لمحة لا يمكن تجاهلها، هي توليد الصور باستخدام الذكاء الاصطناعي للأحداث الدينية، وهو ما يمكن أن يثير جدلًا واسعًا بين الأوساط الدينية والفكرية، لما ينطوي عليه من تمثيل بصري لمسائل مقدسة قد تكون مُحرَّمة أو حساسة في بعض العقائد. في الإسلام، يُعتبر تصوير الأنبياء والرسل محرمًا لدى جمهور العلماء، لما فيه من مساس بقدسية النبوة، كما أكدت دار الإفتاء المصرية في فتوى صادرة عام 2023 أن “تمثيل أو رسم الأنبياء، سواء يدويًا أو رقميًا، لا يجوز شرعًا لما فيه من فتح لباب التلاعب والابتذال، حتى إن كان بغرض تعليمي أو فني”. وفي تصريح لعضو هيئة كبار العلماء الشيخ عبدالله المنيع في جريدة الرياض، أشار إلى أن استخدام الذكاء الاصطناعي لتجسيد مشاهد من السيرة أو المعجزات يدخل في حكم التصوير المحظور شرعًا.

أما في اليهودية، فيستند التحريم إلى الوصية الثانية في التوراة “لا تصنع لك تمثالًا ولا صورة” (سفر الخروج 20:4)، وقد فسّرها الحاخام الأمريكي جوناثان ساكس بأنها تشمل الامتناع عن “خلق صور مرئية تجسّد ما لا يُرى”، وهو ما يجعل توليد صور لله -سبحانه وتعالى- أو لسيدنا موسى محل رفض واسع، وإن كانت بعض التيارات الإصلاحية أكثر تساهلًا.

في المسيحية، يختلف الأمر حسب الطائفة. فالكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية تسمح بتجسيد شخصيات دينية ضمن ضوابط، كما هي الحال في الأيقونات، لكن الأمر يختلف عند الطوائف البروتستانتية التي ترى في ذلك نوعًا من عبادة الصور، وهو ما أشار إليه اللاهوتي الأمريكي R.C. Sproul في كتابه Knowing God (1992)، معتبرًا أن “تجسيد مشاهد الكتاب المقدس قد يحوّل الإيمان من علاقة روحية إلى تجربة بصرية مضلّلة”.

هذه الفوارق الدينية تدفع للتساؤل: هل يمكن وضع معايير عالمية لاحترام الرموز الدينية في زمن الذكاء الاصطناعي؟

آراء المختصين بين التأييد الحذر والرفض المشروط!

يرى البروفسور بيير جوليان، أستاذ التاريخ الرقمي في جامعة السوربون، في ورقته البحثية لعام 2023 (Visualizing the Invisible Past) أن “الصورة المولدة بالذكاء الاصطناعي ليست توثيقًا بقدر ما هي ترجمة بصرية لفرضية تاريخية. إنها أداة تحليل وليست دليلًا دامغًا”. ويقترح جوليان اعتماد بروتوكولات أكاديمية تفرض على المؤسسات التعليمية والمتاحف الإفصاح الواضح عن مصدر الصور وكيفية توليدها.

في المقابل، يشير خبير الذكاء الاصطناعي د.زياد الطويل، في مقابلة مع قناة الجزيرة الرقمية (2024)، إلى أن “الذكاء الاصطناعي يجب أن يُعامل كعدسة جديدة للنظر إلى الماضي، وليس كآلة للحقيقة المطلقة. قوتها تكمن في تحفيز الخيال وتحريك الذاكرة الجمعية، لا في استبدال المصادر الأصلية”.

نافذة معرفية جديدة

في ظل هذا التقدم الهائل بنماذج الذكاء الاصطناعي، بات من الممكن رؤية ما لم يُرَ من قبل. إعادة إنتاج مشاهد الماضي عبر هذه الأدوات لا تعني بالضرورة خداعًا أو تزييفًا، بل قد تكون نافذة معرفية جديدة، بشرط أن تستخدم ضمن أُطر منهجية وأخلاقية صارمة.

لكن يظل السؤال الأهم: هل سيأتي يوم تصبح فيه الصور المولدة بالذكاء الاصطناعي مرجعًا أقوى من النصوص التاريخية؟

المراجع:

  1. Müller, C. (2022). AI in Museums: Visualizing Lost Heritage. Digital Heritage Journal, 18(3), 210–225.

  2. Grossman, S. (2023). Ethical Risks of Visual AI in Historical Reconstructions. AI & Ethics Journal, 5(1), 55–68.

  3. Julien, P. (2023). Visualizing the Invisible Past: AI and the Reconstruction of Historical Memory. Sorbonne University Publications.

  4. مقابلة د. زياد الطويل. (2024). الجزيرة الرقمية. “الذكاء الاصطناعي والتاريخ: بين الوهم والحقيقة”.

  5. قناة Histovi على يوتيوب. (2023). History Reimagined، سلسلة مرئية منشورة بتاريخ ديسمبر 2023.

اقرأ أيضًا: 

فيديو.. هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصبح طبيبًا نفسيًا حقيقيًا؟

كيف تبدأ استخدام الذكاء الاصطناعي في كتابة المحتوى؟

الصين تهزم أمريكا.. ومصر الـ٢٨ عالميا في نشر أبحاث الذكاء الاصطناعي!

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى