المنطقة الحرة

يسمونه أمل دنقل.. وأسميه المحارب

أحمد متاريك

في دار الأدباء الكائنة بشارع القصر العيني، تدلف فتاة نحيلة مرتبكة من فرط الزحام، عيناها تدوران في الأرجاء، تبحثان عن شخص لا تعرفه! اليوم صاخب بندوة أدبية حضورها كثيف غير ملائم إطلاقًا ليكون موعدًا للقاء، ولكن هذا ما قد كان.

بدا لها أن التفتيش عنه بالحدس وحده ضرب من العبث، تسأل فيدلّها أولاد الحلال على مكانه، تقتحم مجلس شخصين شطَّا عن الحضور والتجآ لآخر صف في القاعة، تسأل أحدهما: أستاذ أمل دنقل؟

يتخلّى عن الحديث مع جاره، وهو يلتفت لها في تساؤل، تجبه فورًا على ما لم يقله: أنا صحفية في جريدة أخبار اليوم.. أريد إجراء حوار معك، اسمي عبلة الرويني.

***

في الموعد الأول لهما، كان بحثها عن الظفر بـ”خبطة” ثالثهما، فكان لها منه أول وآخر حوار صحفي نُشر له في “الأخبار”، وفي موعدهما الثاني كان العشق أولهما، وكان له منها إيمان سريع بنصف نبّوته، لم تكن أول من آمن به من النساء ولكنها كانت بهن جميعًا.

يخشى عليها منه ومن طباعٍ لا يتحملها إنسي، تطمئنه بالكذب “لا تقلق، لن أحبك” تحكمه في علاقتهما الآخذة في التطور عقدتان، الأولى فقره المدقع الذي لم يكافحه أبدًا، وثانيها يقينه الذي نشأ معه بلا سبب أن السهم الذي سيقتله يومًا لن يخرج إلا من قوس امرأة، يقول لها “لن تكوني أكثر من صديقة”، تقول له “سنتزوج” تعلم أنها أخيرًا عثرت على الرجل الذي يستحق أن تقرأ له شعرًا فيها، يعترض ويشرح كم أن ظروفه صعبة “لا أجد ثمن تذكرة المواصلات التي تقودني إليك”، يصمم للحظة على التمسك بما اشتُهر به من توق للحرية والصعلكة ورفض لقيود الزواج “أنتِ صديقة عزيزة”، يحاول أن يقنعها بالمنطق “أنتِ تعملين وأنا لا أعمل، ولن أعمل، إنك تحملين شهادة جامعية وأنا لم أفكر”، تجبه في حسم “سنتزوج، ليس فقط انتصارًا للحب، ولكن انتصارًا لخياراتك”!

يتخلى عن أرضه توفيرًا لنفقات الزواج، وإذعانًا لشرط الخاتم الألماسي الذي أقره عليها والداها، وإلا لن تكون له، وما أفدحه من ثمن في عقيدة صعيدي “جدًا”، لا يرى الأرض إلا امتدادًا للشرف، ربما لهذا رهنها إلى حينٍ لأحد أقاربه، ولم يبعها تمامًا، فداءً لـ”الاطمئنان الذي يملأ روحي عندما أحس بأن الحوار بيننا ينبسط ويمتد ويتشعب كاللبلاب الأخضر على سقيفة من الهدوء”. ولـ”المجنونة الصغيرة التي تريد أن تلفّ الدنيا على أصبعها، والتي تمشي فوق الماء، وتريد ألا تبتل قدماها الفضيتان”.

***

عيناكِ لحظتا شروق

أرشف قهوتي الصباحية من بنهما المحروق، وأقرأ الطالع

***

 اسمه محمد أمل فهيم أبو القسام محارب دنقل

لو أراد المرء أن يعرف معنى كلمة صعيدي، لنظر إلى وجهه ووجهته، منحه أبوه اسمًا مركبًا (محمد أمل) تبركًا بشهادة الإجازة الأزهرية التي كان أول الحاصلين عليها من عائلته وقريته بأكملها.

أسماه صديقه الشاعر حسن توفيق: هرقل.

أسماه صديقه الدكتور جابر عصفور: سبارتاكوس.

أسمته زوجته: شوبنهور الفيلسوف الذي كان يحمي أسراره من التلصص عليها بكتابتها باللاتينية، إسقاطًا على روحه الكتومة كصخرة.

أسمى نفسه: الجنوبي.

أخلع أنا عليه اسم جده وأسميه.. “المحارب”.

صراعات لا تنتهي بشعره الجلاّد الذي لا يرحم أحدًا، مع السلطة، مع زملائه، مع كل ما هو ممنوع، نُنتكس في 67 فيرتدي زي عنترة ويبكي في حضرة زرقاء اليمامة

قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجار ..

فاستضحكوا من وهمكِ الثرثار !

وحين فُوجئوا بحدِّ السيف: قايضوا بنا ..

والتمسوا النجاةَ والفرار !

ونحن جرحى القلبِ

جرحى الروحِ والفم

لم يبق إلا الموتُ ..

يمُجد في مظاهرات الطلبة في 72 بقصيدة الكعكة الحجرية، فُتغلق المجلة، ويُشلح صاحبها، يقف السادات على أعتاب كامب ديفيد فيغدق عليه من وصية كليب لأخيه الزير سالم، يستحلفه فيها ألا يُصالح.

يخوض صراعًا لطيفًا، قوامه غالبًا التنافس الشِعري والغيرة المهنية مع نجيب سرور، يسخر من ميلودرامات الأخير فيقول له هازئًا “ازيّك يا نوجة”، يُستفز الأخير فينقض عليه ضاربًا، يتعارك العملاقان كبلطجية الحواري، وفي مساء نفس اليوم كانا رفاق كأسٍ واحدة في بار “كازابلانكا”.

***

“فوضوي يحكمه المنطق، بسيط في تركيبية شديدة، صريح وخفي في آنٍ واحد، انفعالي متطرف في جرأة ووضوح”.

عبلة الرويني

***

أحبك مبتسمة وغاضبة، حاضرة وغائبة، راقصة المشية أو هامدة الجسد، حتى عندما تقولين لي لا أحبك فإنني أحبك.

أمل دنقل

***

سبتمبر 1979

بعد 9 أشهر فقط من زواجهما، يشكو ورمًا في جسده، يؤكد له الطبيب أنه سرطاني الهوى، جراحة أولية (استدان ثمنها) أزاحت عنه الورم، فقط لمدة 5 أشهر، عاود الظهور بعدها مؤكدًا للجميع أنه ضيف ثقيل أكثر من اللازم، يحاول أمل أن يحاربه وحده كعادته، سنة كاملة من المقاومة، هذه المرة يفشل.

مثخنًا بالخلايا التي تأكل لحم أخيها حيًا، ينقله أطباؤه إلى معهد السرطان، إلى الغرفة رقم 8 في الدور السابع منه، حيث بيته الزوجي الأول والأخير، بعد أشهر عجول من التنقل في “المفروش” لضيق ذات اليد.

عام ونصف مرَّا على ساكن الغرفة، حولها فيهما إلى بيته الدائم الذي لم ينله قط، عُلقت على الجدران صور ملونة ولوحات كاريكاتيرية، وصورة لصديق عمره يحيى الطاهر عبد الله، وجزء من قصيدته “ضد من”، يذوي أمل ببطء، ويستعصي العلاج على العلاج.

يهمس لصديقه “لماذا يهاجمني الموت في زمان الفرح والهدوء؟ لماذا أُصاب بالسرطان في عام زواجي؟” لا يجيبه أحد، إلا جسده الذي أعلن أخيرًا العصيان، يناجيه يوسف إدريس في مقالٍ شهير بالأهرام “لا تمت يا أمل، فكلنا فداؤك”، لا يتوقف أبدًا عن الشعر فينجز القصيدة تلو الأخرى، حتى أتممن 6 بالتمام والكمال، كانت آخرها “الجنوبي”، التي وضع قلمه بعدها جانبًا، واتخذ قرارًا نهائيًا بالسماح للموت أن يسلبه روحه.

الحالة تزداد سوءًا، ينهار جسده وأعضاؤه تتوقف تباعًا حتى أصبح عاجزًا عن التقلب من اليمين لليسار، يدخل في غيبوبة تلو أخرى، عذاب سيزيفي لا تتحمله إلا إرادة شُقت من قهر، وصقلها رفض دائم لكل شيء، وسنَّ ترسها شعرٌ سماوي.

***

حين ترينني عاجزًا، تمنّي لي الموت، فهو حقي الوحيد.

***

يحاول مرارًا أن ينزع أنبوب الجلوكوز من يده، يمنعونه كل مرة، لم يكن يقوى على الصراخ، فقط نظر إلى عيني عبلة يسألها الخلاص، اقتربت منه وبادرت بنزع الحقنة من يده، وهي تهمس له: الآن يمكنك أن ترتاح.

ليدخل بعدها في غيبوبة جديدة وأخيرة.

***

هل تريد قليلاً من الصبر؟

-لا ..

فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه

يشتهي أن يلاقي اثنتين:

الحقيقة والأوجه الغائبة.

أحمد متاريك

كاتب ومحرر ديسك

اقرأ أيضًا:

اكتب صح يطلق مصححا أوتوماتيكيا للغة العربية

أهم 5 كتب لمعرفة الأخطاء اللغوية الشائعة (متاحة للتحميل)

أفضل كتاب لتعليم الإملاء (متاح للتحميل)

51 كلمة قرآنية تُفهم خطأ

ألف الوصل وهمزة القطع.. (6) إنفلونزا أم أنفلونزا؟

كيف ننمي اللغة العربية لدى أطفالنا؟

ما الـ Thesaurus؟ وهل توجد في اللغة العربية؟

تأنيث أسماء الدول وتذكيرها

فيديو| كيف تصبح محرر ديسك 3

استقالة القاضي السحيمي.. لماذا كل هذه الضجة؟

بخطوات بسيطة.. كيف تحوّل العامية إلى فصحى؟

4 مهارات أساسية لإتقان اللغة العربية

صور| نشرة أخبار الأخطاء – الجمعة 27 نوفمبر

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى