المنطقة الحرة

سَجّل أنَا عَربيّة وأجدَادي شعَراء أورَثوني النَّظم والخَيال

نهى سعداوي

كنت أقرأ ما يكتبه الأصدقاء على صفحاتهم بخصوص اللغة العربيّة في يومها العالمي الذي وافق الثّامن عشر من ديسمبر، بانزعاج. منزعجة منّي، لأنّي لم أكتب شيئا في الموضوع، ربّما بسبب المزاج المتعكّر بسبب “القرف الشّهريّ” أو هي سحب الكآبة التي تمرّ بي من حين لآخر. قلت لشريف:” لست أتقبّل أن يمرّ اليوم هكذا دون أن أكتب شيئا! لم أستطع حتّى التركيز في مراجعة بعض الموادّ للنشر. ليس معقولا أن لا أتفاعل وأنا فوق حبّي للعربيّة لغة، منخرطة في مشروع ثقافيّ أساسه دعم ونشر المحتوى العربيّ على الشبكة! أ يُعقل أن أتنكّر لحبيبتي ومشروعي؟!” شريف لم يقل شيئا غير “اكتبي” وطبعا كتبت.

في الكتّاب:

لم أنشأ في بيت بمكتبة كبيرة لأدّعي أنّي فتحت عيوني على صفحات الكتب، ولا كان أهلي من نخبة المجتمع علميّا ولا اجتماعيّا. كنّا ككلّ “التوانسة” نتكلّم العربيّة التونسيّة، لكنّ اللهجة التي نتكلّمها في قريتي تختلف حتّى عن اللهجات في القرى المجاورة، فما بالك بأهل المدينة الأقرب والمناطق التونسيّة الأخرى. العربيّة التونسيّة ثريّة ومتنوّعة جدّا لهجاتها لكنّنا في النهاية نتواصل ونجد سبلا للتبليغ، حتّى أنّنا معروفون عربيّا بقدرتنا على الفهم والتخاطب مع غيرنا من العرب بدون صعوبات تقريبا. في هذه البيئة القرويّة، لم يكن هناك “روضة” ولا “نادي أطفال”، طفولتنا لهو وركض وانطلاق. وحين نبلغ الرّابعة أو الثّالثة أحيانا يكون قد آن أوان الذّهاب للكُتّاب. “الكتّاب”، لفظة لا تستعملها نهائيّا في قريتنا ولا نعرف ما تعنيه فعليّا. فلم نكن نذهب للكتّاب فعلا بل للجامع. “الجامع” في قريتي هو المؤسسة التربويّة أو التعليميّة الأولى التي نقصدها. نقطع مسلكا فلاحيّا بمسافة أكثر قليلا من كيلوميتر لنذهب للجامع والذهاب للجامع ترافقه بهجة وفخر فهو أوّل الأدلّة أنّنا كبرنا. نغادر المنزل دون الأمّ والأب ونذهب مع أترابنا الذين نلتقيهم طوال الطريق لتعلّم “القرآن”.

“القرآن” هو أوّل لقاء لي باللغة العربيّة الفصحى وهو اللقاء الأحبّ إلى قلبي حتّى اليوم. في الجامع، في الغرفة الصغيرة ذات الباب الأخضر ذي الظلفتين تعرّف لساني على الفصحى وأتقنها مع مرور الزّمن. وإن كنت أدين لأحد بسلامة نطقي وفصاحته فلمعلّمي الأوّل ومعلّم أجيال كثيرة في قريتي وهو “عمّي علي”، هكذا كنّا نناديه، لم نعرف “سيّدي” و”أستاذي” و”شيخي” أبدا معه ولعلّ هذا سبب الألفة التي نمت بيننا -كلّ الأطفال- وبينه. لم يكن يلجأ للزجر إلّا نادرا ولم يكن غضوبا أو قاسيا. ملامح وجهه مريحة ومعاملته سيّسة. يحفّظنا القرآن حسب أعمارنا وحين تقترب ذكرى المولد النبويّ يحفّظنا الأحاديث مراعيا قدراتنا وأعمارنا أيضا. علّمنا قواعد “الإدغام” و”التنوين” والحروف المضخّمة والحروف المرقّقة والمدّ والسكون. علّمنا الأناشيد التي تتغنّى بالنبيّ الكريم ومولده. أذكر منها أنشودة يقول مطلعها:” يا آمنة بُشراكِ.. سبحان من أعطاك لحملك بمحمد.. رب السما هنّاك”. كنت أحبّ صوته حين نسمعه منشدا في احتفاليّة المولد، حتّى أدركه الكِبر وما عاد صوته يبلغني من مكبّر صوت المئذنة البعيدة. غادرت الجامع في سنّ الخامسة عشر وقد حفظت من القرآن سبعة أحزاب، نسيت معظمها اليوم، لكنّ لساني لا يزال على فصاحته كما شكّله “عمّي علي”.

المدرسة:

لم أعرف المدرسة حين بلوغي السادسة مثل كلّ التلاميذ. دخلتها واعتدتها منذ الرّابعة تقريبا فهي “مدرستنا”. أبي حارس المدرسة ومنظّفها ومعدّ الوجبات في المطعم المدرسيّ. كان يصطحبني معه أو خلفه -أصحّ- على درّاجته الهوائيّة أحيانا كثيرة فأدخل الأقسام وأراقب التلاميذ وهم يتعلّمون. لا أزال أذكر المعلّم سي إبراهيم التونسي الذي يحضر لي حلوى “الكاراميل” وآنستي كاميليا وآنستي شلبيّة اللواتي كنّ يحضرن لي قطع المرطّبات. أذكر أيضا آنستي ليليا الوكيل التي أرسلت لي قارورة عطر صغيرة هديّة لتفوّقي في ما بعد. هذه الأجواء جعلتني أحبّ المدرسة وأقدّس المعلّمين. أمّا ما جعلني أحبّ اللغة العربيّة أكثر فهو عالم القصص، تلك الكُتيبات الجميلة كثيرة الصّور التي بدأت تسحرني قبل أن أعي الكلمات ومعانيها. أتصفّحها من مكتبة المدرسة العتيقة بعيون طفوليّة منبهرة، فلم يكن عندي قصص مثلها في البيت. عندنا فقط كتب كبيرة الحجم عتيقة مرصوصة في كيس كبير من الخيش تحت سرير أبي وأمّي، بلا صور تزيّن صفحاتها.

في بداية كلّ سنة، نصنع مكتبة من الورق المقوّى بل من “كراتين” كبيرة نغلّفها بورق ملوّن ونضع فيها قصصا يحضرها تلاميذ القسم وأخرى من مكتبة المدرسة. كما نضع حصّالة بجانبها نضع فيها عشرين ملّيما كلذما استعرنا قصّة لنقرأها حتّى نجمّع مبالغ نشتري بها قصصا جديدة. أذكر أنّ قصص الأطفال في بداية التسعينات كانت تتراوح أسعارها بين المائة وخمسين حتّى الدينار، أو أنّني في بيئتي القرويّة تلك لم أعرف قصصا أغلى وأجمل رأيتها فيما بعد في مكتبات المدينة. لم أحبّ شيئا كما أحببت قراءة القصص ولم أكن أشبع، كنت نهمة جدّا وكان أبي يشجّعني فهو أيضا كان يقرأ كثيرا. أصبح يشتري لي بعض القصص وكنت في آخر كلّ سنة دراسيّة أتحصّل على جائزة تكون دائما مجموعة قصص. كانت حصص المطالعة حبيبة جدّا، نمثّل فيها مقاطع من القصص ونعدّ لها الأزياء والديكور ونحفظ الأدوار. أحببت اللغة العربيّة أكثر مع معلّميها، أحببت حصص التعبير الشّفوي وتمارين التعبير الكتابيّ.

كنت بارعة في اختراع الحكايات خاصّة وأنّ أبي كان يدرّبني دون أن أدري ويطوّر هذه الملكة عندي، إذ يكلّفني دائما بوصف مشاهد الحقول أو حال الطّقس أو قطيع الأغنام وغيرها من المواضيع حين أرافقه في الرّعي. أظنّه كان أيضا يحاول توظيف ثرثرتي التي لا تتوقّف بتوجيه طاقتي نحو خلق الحكايات. كبرت وكبر معي الشّغف باللغة والقراءة والحكايات. أحببت حصص العربيّة في المعهد وتفوّقت في الإنشاء والمقال الأدبيّ وأحببت محاور الشّعر والأدب العربيّ القديم وبدأت في كتابة الخواطر ومحاولات السّجع والتّأليف. وقرأت، قرأت كثيرا حتّى أنّي كنت صديقة أمناء مكتبات المعهد وأمينة المكتبة العموميّة التي كانت تمازحني قائلة:” سأتركك لتبيتي مع الكتب وأغلق الباب وأغادر.” أشكر فضل كلّ هؤلاء فنهمي في القراءة أنقذني لاحقا من خيبات كثيرة.

الجامعة والقطيعة:

اخترت دراسة اللغة الانجليزيّة فكانت بداية القطيعة مع اللغة العربيّة الحبيبة. وفترة الدراسة الجامعيّة ككلّ كانت فترة عطالة بالنسبة لي، أشعر أحيانا أنّي دخلت فيها سباتا أفقت منه بعدها. لم أقع في حبّ مكتبة الكليّة، وقاعاتها كانت للمراجعة أو للهو والجلسات مع الأصدقاء غالبا. انصرفت في سنوات الجامعة إلى الرياضة والمسرح والرّسم ومتابعة نشاط اتحاد الطلبة ومغامرات السكن الجامعيّ والمدارج والمحاضرات والحبّ وجلسات الأصدقاء. ابتعدت عن اللغة العربيّة تماما، ما عدى خطابات اتحاد الطلبة. لا تزال ترنّ في أذني جمل الطلبة القوميين الفصيحة وحرصهم على اللغة السليمة، القوميون العرب في الجامعة هم الأكثر فصاحة بلا منازع. ولعلّ هذا ما جعلهم الأقرب لي وشدّني لهم، إضافة لتقاطعات كثيرة أخرى، فخرجت من الجامعة عروبيّة أوسع أفقا وتجربة. وأعتبر هذا تعويضا، حتّى عودتي للرّوايات العربيّة في أواخر سنوات الجامعة بالإضافة لاشتغالي على “سياسات الدول العربيّة في اختيار لغات التعليم العالي” في بحثي الختاميّ للحصول على شهادة الأستاذيّة، والذي يحبطني إلى اليوم عدم قدرتي على المواصلة فيه في الماجستير لاعتبارات سياسيّة سنة 2010.

الثّلاثون:

عدت للعربيّة بقوّة سنة 2009 وكان لعالم الانترنت الفضل الكبير ولعلّه العالم الذي شكّل منعرجا في حياتي. استعدت ثقتي في قدراتي وكتبت، كتبت ولم أتوقّف حتّى اليوم. ربّما انفجرت وأخرجت كلّ ما خزّنته على امتداد السنوات، ربّما كانت الكتابة وسيلة تفريغ أيضا شجّعني عليها أستاذ لغة عربيّة فلسطينيّ عزيز. كتبت وقرأ لي ووجّهني وساعدني وحفّزني لإلّا أتوقّف، ولم أتوقّف حتّى اليوم. أنا اليوم في الثلاثين، ومن حولي في العالم الافتراضيّ أدباء وشعراء وكتّاب أصغر سنّا منّي بكثير يشعلونني غيرة. لست كاتبة ولا شاعرة، ولو أنّي كنت أحلم أن أكون شاعرة ثمّ صرفت عن الشّعر النّظر. لست مدوّنة معروفة ولم أنشر مقالاتي وخواطري ونصوصي في مجلّات شهيرة ما عدى نصّ ومقالين، لكنّي أكثر تعلّقا باللغة العربيّة. بل إنّي قد طلّقت اختصاصي إلى حين بل حتّى إشعار آخر وانصرفت للكتابة. لم أعد أهوى الشعر وقد أصبح “صفّ الكلام” شعرا وتكاثر الشّعراء كالفطريّات. أصبحت ميّالة أكثر للأدب ولي قصص حبّ عميقة مع أدباء عربٍ لم ألتقِ أيّا منهم. إنّه الحبّ عن بعد.

في الثلاثين، انخرطت في مشروع ثقافيّ أسميناه بالاتفاق “قرطاس”. وأنا شبه أعوم في الفراغ، إلّا من مخطّطات بعيدة الأمد مع صديق فلسطيني، فاجأني صديق تونسيّ باقتراحه إدارة مجلّة وها أنا أديرها وأكتب فيها. أحببت فيه غيرته على اللغة العربيّة وحماسه الشديد لنشر الفكرة والمعلومة والتجربة الانسانية باللسان العربيّ. أحببت أيضا ثقته الكبيرة التي انتقلت لي كعدوى. “قرطاس” هي المشروع الوحيد في حياتي الذي دخلته وخضته دون خوف أو تردّد. شجاعة كبيرة لم أعهدها فيّ، على جرأتي، أن رميت ما اعتدته حتّى المرض وعدت لما أحببت ودفنت. أنا اليوم وإن لم يتغيّر في وضعي الماديّ والاجتماعيّ شيئ، فإنّي أفضل حالا من أيّ وقت مضى. عودتي للسان العربيّ وانغماسي في التصحيح والمراجعة والكتابة وحماسي -الذي يفتر بعض الشيء كلّ شهر- وحرصي على التّطوّر واختلاطي بالمحرّرين ومديري التحرير مصادر سعادة لن ينجح في سرقتها شيء. أشعر اليوم أنّي بذات الاندفاع الطفوليّ رغم أنّي أقرب للتجاعيد والشعر الأبيض. أحلم أن أصبح مديرة مجلّة “عربيّة” رائدة وربّما كاتبة عربيّة شهيرة.. ما المانع؟ سجّل أنا عربيّة، وأجدادي في الأصل شعراء أورثوني النّظم والخيال.

نهى سعداوي – تونس

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى