سر روعة العربية الذي لم يلتفت إليه أحد!

قيل اشتقت لفظة الغرام من “الغريم”، أي العدو، وذلك أن الحب إذا اشتد لازم القلب، كما يلازم الغريم غريمه، يتربص به الأحوال!
وقيل “الصبابة” من انصباب المحب في المحبوب بالكلية.
وفي كل مرتبة من مراتب العشق والوله والغرام، لفظة تصف حالًا واحدًا بدقة، لا ينصرف إلى غيره. ولعل هنا جانب من عبقرية هذه اللغة.
لقد دجّنوا سقف تذوقنا وخيالنا في المرحلة الثانوية، حين قالوا إن عظمة اللغة العربية من تعدد مفرداتها وترادفاتها، ولم أفهم يومها أفضلية لغة على لغة لأنها تقول عن الأسد إنه الليث والغضنفر والقسورة، ولم أستسغ تفضيل العربية على الفرنسية لأن السيف عندنا هو الحسام والمهند والقاطع!
أما وجه الروعة –ودعك من مسألة الأفضلية- هو أن لكل لفظ مقابلا ذهنيا وصورة بعينها، يكافئها معنى لا يستقيم وغيره.
فإذا ما اعتدل ميزانك اللغوي، واتّقدت ذائقته، وانساب لسانك، ستدرك لم اختار العربي القديم أن يقول مرة المهند ومرة القاطع، مثلا.
فلكل واحدة موسيقى وسياق وتاريخ وتداعٍ غير أختها، وبدقة الاختيار، تكتمل في كل جملة معادلة رياضية خلابة الجمال.
اللغة قوامها الاستساغة ومادتها التذوق.
لذا أتذكر صديقي الذي حفظ القرآن صغيرًا، ثم هاجر إلى أوروبا، وبعد طول معاشرة لأحوال البشر هناك، تفلت منه الاعتقاد في مسألة الدين رويدًا رويدًا.
يقول لي: بدا الأمر فلكلوريًا، وأحسست بسخفه كله. إلا أنني إذا صادفت آية من كتاب الله أسمعها مصادفة أو تقع عليها عيني، أبكي.
فليس هذا إلا كلام الله! أنا رجلٌ أجيد هذه اللغة، أعرف مداخلها ومخارجها، ككفّ يدي هذا، وأعرف كيف يتراص اللفظ واللفظ في جملة فيصير المعنى، وأدرك قدرة الآدمي على التصرف فيها، وأعرف كيف ينساب لسان العربي، كان في البيداء القاحلة أو في قلب عاصمة أوروبية بهيجة.
وهذا ليس إلا كلام الله.
ولعل، من هذا النحو، يستمتع محبّو هذه اللغة، بفك شفرات جمالها، دون أن ينقضي حماسهم قط، كأولئك الفيزيائيين الذين يعيشون ويموتون يطاردون معادلةً واحدة.
أحمد الدريني
كاتب صحفي