المنطقة الحرة

أيقونية أبلة هناء

غادة عبد الهال

لم تكن مدرسة أحد المفضلة، لم يكترث لها أحد ولم تضع بصماتها على ذكريات أحد، فهي لم تمتز بأسلوب تعليمي متفرّد مثلا، ولا خفة روح تعرفها بها، ولا مواقف فارقة تستدعيها ذاكرتك حين تمرّ صورتها على بالك، فقد كانت “أبلة هناء” مدرسة اللغة العربية، من النوع المتوسط، ذلك النوع من المدرسين الذي لا يمثل لك أي شيء، فهي مجرد أداة تلقين تجبر كطالب على أن تمثل أمامها كل يوم بسبب قانون مجتمعي ما يلزم أمثالك بالذهاب إلى المدرسة!

لكن لأسباب مجهولة، وعلى الرغم من مضي ما يقرب من عشرين عاما ما زلت أتذكر “أبلة هناء”، بطولها الذي لا يزيد بأي حال من الأحوال على متر واحد، ببشرتها السمراء الداكنة، بحجابها الأبيض الذي بطل طرازه منذ عشر سنوات، بملامحها المكفهرّة دائما، ربما كان تذكري لها لأنها كانت وقتها أيقونة لكل ما يمثله لي المستقبل من مخاوف، كنت أنظر لها وأنا أفكر في مستقبلي برعب، ماذا سأفعل إن انتهى بي الحال مثلا، بأن يتم احتجازي في مهنة لا أحبّها، أمارسها لأكسب قوت يومي دون أن أتلقيّ أي احترام أو حتى اكتراث ممن أقدّم لهم خدماتي التي تمليها علي وظيفتي!

فقد كنا نحن طالبات السنة الثالثة من المرحلة الثانوية حقا لا نكترث لأيٍ من مدرّسينا في المدرسة، كنا أشبه ما نكون بفصل من تماثيل الشمع، نجلس في مقاعدنا الدراسية وعلى وجوهنا تعبير واحد لا يتغيّر، يصرخ بعلو الصوت أننا هنا فقط من أجل عدم تخطّي نسبة الغياب لا أكثر، فكلنا نتلقى دروسا خصوصية في كل المواد، لا نرجو ولا نتخيل أن تقدم لنا المدرسة أي إضافة لما نتلقاه خارجها.

كنا نتفنن وقتها في ابتكار الحيل التي تمكننا من السخرية من مدرسي المدرسة دون أن نتعرض لأي عقاب، كانت حصة الفيزياء مثلا تبدأ بدخول المدرس من باب الفصل ليجدنا جميعا نائمات على مقاعدنا ووجوهنا في الأرض، فلا يجد المسكين من يشرح له، فيكتب الدرس كاملا على السبورة ويجلس في مقعده ينظر لنا بغيظ، بينما نكتم نحن ضحكات السخرية بين أنفاسنا التي تنتظم جميعها سويا وكأننا بالفعل نائمات.

أما في حصة الأحياء، فلم يكن مدرس المادة ذو الشعر الأشيب وسنوات الخبرة الطويلة يضيع لحظة من وقته متخيلا أن لوجوده لزوما، فكان يجلس رافعا قدميه على الدرج أمامه، فاتحا جريدته المفضّلة، ضاربا بأي محاولة للشرح عرض الحائط، وكذلك كانت تفعل مدرسة اللغة الإنجليزية التي كانت تستغل وقت الحصة في تكملة تطريز ملابس لمولود تنتظره دون أن تبالي بصخبنا وتحركنا حولها في أنحاء الفصل، وكأنها لم تكن تعترف بوجودنا أصلا، اللهم إلا في لحظات نادرة، لتسأل إحدانا عن رأيها في غرزة تطريز جديدة ابتكرتها أو في تناسق ألوان ملابس “البيبي” الجديد.

وحدها “أبلة هناء” كانت تحاول، وبما أنها كانت مدرّسة اللغة العربية فقد كانت محاولاتها مضاعفة، إذ يقف أمامها عائقان، أولهما عائق عدم اكتراثنا بالمدرسة ومدرسيها، والثاني عائق كرهنا لمادة اللغة العربية من أساسها، خصوصا النحو، ذلك الجزء من المنهج الذي ليس له وظيفة سوى تدمير أحلامنا في الحصول على درجة المادة الكاملة، فنحن وإن كنا نبدو مشاغبات، فقد كان فصلنا يحمل لافتة عريضة مكتوبا عليها “فصل المتفوقات”، كنا نتنافس فيما بيننا تنافسا شرسا على الدرجة ونصف الدرجة، وبالتالي فقد كان كرهنا لمادة النحو عظيما.

لكن على الرغم من ذلك كله، لم تيأس “أبلة هناء” أبدا من المحاولة، بودّي أن أحكي لك كيف أثمرت محاولاتها في النهاية عن اكتسابها ثقتنا، أو حتى جذبها انتباهنا، لكن للأسف فهذه القصة ليست من هذه النوعية من القصص، لا تحمل النهاية السعيدة التي تنتظرها من قصة تحكى على مواقع التواصل الاجتماعي هدفها أن تشعر في النهاية أن الدنيا ما زالت بخير!

لم ننتبه أبدا لـ”أبلة هناء” ولم نقدّر مجهودها، ظلّت بالنسبة لنا شخصا لا ندري لوجوده سببا ولا فائدة!

فلماذا إذا أذكرها اليوم بشكلها واسمها وحدها؟

لماذا لا أستطيع تذكر اسم أي مدرس من مدرسي هذا العام الدراسي؟ ولماذا تقف ملامحها وحدها واضحة بينما تلف ملامح الباقين كلهم طبقات سميكة من الضباب؟

لماذا تدوّي في أذني حتى اليوم جملتها الأيقونية التي كنا نسخر جميعا منها: ”يا سنة تالتة مفيش أسرع من الأيام”! كانت تقولها لتحذّرنا من تهاوننا وتكاسلنا، وكنت بين نوبات سخريتنا ولا مبالاتنا أستشعر صدقا بين كلماتها.

ربما لهذا السبب أتذكرها بعد كل تلك السنوات، بتقطيبة حاجبيها والضيق المرسوم على وجهها وفمها المزموم في حزم وتصميم، ربما بالفعل أثّرت فيّ وتركت بصماتها على ذكرياتي دون أن أشعر، صحيح لم تغيّر مشاعري ناحية النحو الذي ما زلت أكرهه من أعماق قلبي، لكن تصميمها وتفانيها أسّسا مثالا في لاوعيي لا يبدو أنه سينمحي.

فقد صارت “أبلة هناء” في قاموسي أيقونة المثابرة، التي لا تكترث إن لم يعيرها العالم كله انتباها، يكفيها أنها تؤدي عملها بإخلاص، وتهتم بصدق حتى بمن لا يهتمون بها، فسلام لها ولروحها الطيبة أينما كانت.

غادة عبد العال – كاتبة وسيناريست

اقرأ ايضًا:

الأستاذ هاني وردة

وصرخت ميس صافيناز

رسائل الغياب

لماذا لم تعودي يا ميس شيرين؟ 

المدينة البعيدة

كساحر خفيف اليد

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى