المنطقة الحرة

رسالة بيتهوفن الأخيرة للعالم

حسام مصطفى ابراهيم

فَقَد بيتهوفن سمعه تماما في الثامنة والثلاثين عن عمره. فدخل عالم الصمت بلا رجعة، وأحكم إغلاق الباب خلفه، وجلس وحده مع هواجسه وخيالاته، فيما بدا سخرية مريرة من الأقدار، التي اختارت أهم حاسة بالنسبة لموسيقي كي تحرمه منها، وإن أعطت إشارة البدء لتجربة مدهشة، سيظل العالم يتحدث عنها طويلا: السيمفونية التاسعة “الكورالية”، أعظم أعمال بيتهوفن قاطبة، وأكمل بناء موسيقي وضعه إنسان، وأول سيمفونية تشهد تزاوجًا بين النغم الهادر والصوت البشري، حيث صدح الكورس في حركتها الأخيرة، بأبيات من قصيدة “إلى الفرح”، للشاعر الألماني شيللر.

صَمْتُ العالم المحيط ببيتهوفن، منحه قدرة أكبر على الإصغاء لهواجسه وأفكاره، واختبار قناعاته التي اكتسبها عبر سنوات من مكابدة الدنيا، وتحقيق حالة من الوصل مع خفايا النفس البشرية، ربما لم تتسنَ لأحد سواه، وصولا لخلق حالة نغمية عجيبة، تجلّت كأروع ما يكون في البناء الشامخ الذي أقام عليه سيمفونيته المذهلة!

والذين سمعوا بيتهوفن من قبل، والذين لم يسمعوه، ستكون أمامهم هذه المرة، “إرادة” موسيقية نافذة ومتعالية على الزمن وعلى الحياة، وليس مجموعة من الأنغام المتّسقة التي تصدر عن آلات متحمّسة للعزف.

السيمفونية التاسعة رسالة وداع ووصية كونية شديدة الخصوصية من فنان رأى في الموسيقى دينًا يوحّد القلوب على اختلاف مذاهبها، ويأخذ بأيدي الجميع إلى “الفرح”، فبشّر به.

يقول عنها الراحل الكبير حسين فوزي: “لسنا في حاجة لمقدمة كلامية لشرح السيمفونية التاسعة لبيتهوفن. فالعمل يقدم نفسه بأعجب ما بدأ به مؤلف موسيقي. وينتهي بأصوات الكورس الكبير ومعه رباعي من المنشدين يرفعون أكفهم بالضراعة إلى الخلاق العظيم أن يشمل البشرية برحمته، وينزل على قلوب الناس الطمأنينة والسلام. وهذه السيمفونية الصاخبة، الهائلة في نهايتها، تبدأ هادئة، وبلحن لا يكاد يكون شيئًا مذكورًا. لحن يبدأ متسائلاً خفيا، وكأن بيتهوفن يبحث عن شيء لا يعرفه تمامًا، أو هو باحث عن نفسه”.

عُزفت السيمفونية التاسعة لأول مرة، يوم 7 مايو 1824 بفيينا، في أول ظهور لبيتهوفن على مسرح منذ 12 عامًا، وسط حضور جماهيري كثيف.

ورغم أن بيتهوفن أصر على قيادة العرض، فإن مايكل أوملاف، هو من قاده رسميا، وأعطى أوامره للعازفين بتجاهل بيتهوفن تمامًا، لأنه شهد من قبل كيف أفسد بيتهوفن الأصم تدريبات أوبرا فيديلو، فلم يرِد للأمر أن يتكرر. ووصف عازف الكمان جوزيفبوم، بيتهوفن يومها قائلا: “كان واقفا بالمنبر، وأومأ بشراسة، في بعض الأحيان كان يقف، وفي أحيان أخرى ينكمش في الأرض، تحرك كما لو أنه يريد عزف كل الآلات بنفسه والغناء بدلا من الجوقة”.

والحكايات كثيرة عن العرض الأول للسيمفونية: فبينما وقف الجمهور في أماكنهم وألهبوا أيديهم بالتصفيق غير مصدقين أن هذه المعجزة حدثت للتو في حضورهم، كان بيتهوفن قد تخلّف عن الأوركسترا بعض الوقت، ولا يزال يقود، فلمست كتفه إحدى العازفات ووجّهته للجمهور. وقال شاهد عيان: “قابل الجمهور البطل الموسيقي بقدر كبير من الاحترام والتعاطف، واندلعت الصالة في تصفيق شديد، مع الوقوف خمس مرات، كانوا يلقون بقبعاتهم ومناديلهم في الهواء ويرفعون أيديهم، في محاولة للفت انتباه بيتهوفن الأصم ليرى أنهم يصفّقون له”.

بيتهوفن الذي صارع الحياة وصارعته، وبدا أغلب وقته ساخطا عليها، أهدى العالم في آخر أعماله، نشيدا يحمل اسم “إلى الفرح”، كأنها رسالة ختامية، تقول إنه مهما تعقّدت الحياة، فإنه لا يزال بإمكاننا أن نعيشها، ونجد فيها فسحة الأمل، التي هي باب كل فرح.

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى