المنطقة الحرة

عبلة الرويني تعيد أمل دنقل للحياة (حوار)

وصلتُ متأخرًا عن موعدي معها، المواصلات فعلتها معي كالعادة، لكني كنت أحمل سلاحًا سرّيًا.

صعدتُ سلالم الدور الأول على عجل، ودققت الجرس، وبسرعة أخرجتُ سلاحي السري، ورفعته وتقدّمت به، في انتظار لحظة المواجهة.

إنها عبلة الرويني فعلا، تقف خلف الباب، وعلى وجهها ابتسامة ساحرة، راحت تتسع وهي تشاهدني أحمل الورد إليها.

وبادرتني: الورد أنقذك!

فحمدتُ الله، وأثنيتُ عليه بما هو أهلٌ له، ثم أخذتُ نفسًا عميقًا، وخطوتُ بقدمي إلى المحراب.

كنتِ قريبة من أمل في لحظات ولادة قصائده الكبرى، فكيف كنت ترينه يعمل؟ وما مصدر إلهامه الأكبر؟

لكل قصيدة من قصائد أمل، رؤية وبناء فكري، غير بنائها الفني، فهي تؤكد معنى ما، وتضيف جملة جمالية في مسيرته الفنية، وأغلب قراءاته كانت في السياسة والتاريخ والتراث، والكتب المقدسة مصدره الأساسي، وفي ديوان “العهد الآتي” مثلا، أعاد إنتاج التوراة، وحاكاها لغة وتقسيمًا ومفرداتٍ، فيما تستلهم قصائده عادة القرآن والتوراة معًا، وتضفّر بينهما في مزيج فريد، صنع شعبيته، ولدى أمل ديوان كامل “أقوال جديدة عن حرب البسوس”، يستدعي فيه القصة التراثية لحرب البسوس، بشخوصها وتداعياتها، في إطار معالجة عصرية.

تكنيك خلط التراث بالسياسة المعاصرة، وما يحمله بالضرورة من إسقاطات، إضافة لاستخدام الرموز الدينية في قصائده، لم يكن يتسبب في مشاكل لأمل؟

لم يحدث هذا، فلم يُجابه أمل باعتراضات دينية على قصائده، من أفراد أو مؤسسات، ولم تسجّل ضدّه تحفّظات من أي نوع، ولم تتخذ في حقه أي إجراءات تعسفية، فلم يكن له نشاط سياسي يؤاخذ عليه. كان مخلصًا للشعر وحده، يبثّه كل شيء.

هل لا يزال أمل دنقل يعيش للآن؟ وما الذي تضفيه قصائده على الواقع المعيش؟

قصائده تعيش حتى الآن بالفعل، ودون أمل، لم يكن لأحد أن يتصوّر مدى التدني الفكري والثقافي والإبداعي، الحاصل الآن، والذي لا نحتاج أمل للقول إنه فاق الحدود، فهناك تجاوزات شديدة في حق الإبداع وحرية التعبير، وتراجع في الحالة الثقافية عمومًا، والمشكلة ليست في الشكل إنما في المضمون، لا مشكلة أن تكتب قصيدة نثر أو تفعيلة، المهم أن تكون جيّدة، المستوى هو  الفيصل، والتراجع الحادث الآن في كتابة الشعر وقراءته على حد سواء، ناتج عن لخبطة وارتباك المجتمع، والأدب أحد تجليات هذه اللخبطة.

 هل فكر أمل في كتابة أي شكل إبداعي آخر غير الشعر؟

أمل لم يترك سوى الشعر، وكان ضد كتابة النثر، هو شخص مُخلص تمامًا وأبدًا للقصيدة، لا يعمل ولا يقترب من أي وظيفة أخرى، ولا مكان في قلبه لأي شيء الدنيا غير كتابة الشعر، ربما في البدايات، وهو في العشرينيات من عمره مثلاَ، حاول كتابة مسرحية غير شعرية، كتب فكرتها فقط، وكانت عن قناة السويس، لكنها لم تكتمل، المتوافر منها صفحة واحدة أو صفحتان، ولا يمكن التعامل معها بجدية، فهي لم تكن سوى فكرة.

هل يمكن القول إن أمل غزير الإنتاج؟

كلا، أمل تُوفي في الأربعين من عمره، وكل ما أنجزه 6 دواوين فقط، مقارنة بسعدي يوسف مثلا، الذي يكتب كل يوم قصيدة، لا يمكن أن يقال إن أمل غزير الإنتاج، وعندما سألت سعدي: لماذا تفعل هذا؟ أخبرني أنه يكتب كل يوم، لعلّه يظفر بقصيدة جيّدة كل فترة، فهو منهج، أما أمل فكان قليل الكتابة، وفترات صمته طويلة، لكنها ليست مخيفة.

رغم إقلاله، كتب أمل في فترة مرضه الأخيرة، ديوانا كاملا، هل لذلك دلالة ما؟

أمل عنيد، وكان في لحظاته الأخيرة، يتحدّى الموت بالكتابة، فهي شكل من أشكال المقاومة، وتعامله مع الشعر لا يستهلكه، إنما يشحنه.

هل كان الوحي ينقطع عن أمل؟

لم يكن أمل يخاف من فترات صمته، وقد أمضى مرة 4 سنوات دون كتابة، لكن لحظات الصمت الطويلة تتبعها نقلة جمالية عادة، وفي فترة الصمت كان يقرأ كثيرًا، فهو صمت عن الكتابة وليس عن الحياة، والقصيدة ليست لحظة كتابتها فقط، وإنما ما يحدث قبلها وخلالها، وما يحتشد به داخله، فالقصيدة موجودة، لكن لحظة كتابتها هي التي ربما تتأخر قليلا.

هل لأمل موهبة أخرى غير الشعر؟

نعم، ذاكرته الحديدية، في سهرة من السهرات، ألقى قصيدة كاملة لعز الدين إسماعيل الناقد، فاندهشنا لأنه يحفظ شيئا غير مألوف، وغير مطروق، وهذه الذاكرة الجبارة كانت معينه في كتابة الشعر، فأمل شاعر بلا مسوّدات، كانت المسوّدة ذاكرته الحديدية، يفكر في القصيدة، ينشغل بها وهو يأكل، ويشرب، ويقابل أصحابه، وآخر مرحلة وأسهلها، وضعها على الورق.

من يخلف أمل دنقل؟

لو قلنا إن أحداَ أعاد إنتاج أمل، فلا داعي لأن يكون موجود أصلا، ما دام لدينا الأصل، ولو قلنا إن أحدًا وصل إلى مكانته الشعرية، وإضافته الجمالية، بشكل يتجاوز أمل، فمن وجهة نظري أنا، لم يحدث هذا، وهو ليس انحيازًا، فهو ما يؤمن به عدد من النقاد، مع ذلك لو قلنا إن أمل آخر الشعراء، سوف نظلم المستقبل والأجيال التي تلته، بالتأكيد هناك شعر وشعراء كثيرون من بعده، من الممكن أن نختلف في تقييمهم، لكن أمل ليس آخر الشعراء. وهناك شعراء عملوا في قصائدهم على ما تم إنجازه، واجتهدوا في المتحقّق، حتى لو لم يقدّموا إضافة، ولدينا أيضا شعراء قصيدة النثر، وهو منحى آخر،  وبنية أخرى، ومسار مختلف عن مسار قصيدة التفعيلة، وشعراء النثر أكثر من تأثر بأمل.

هل كان أمل يعرف أنه شاعر صاحب منجز كبير وبصمة؟

أمل كان يدرك تمامًا حجم موهبته، وهذا هو سلاحه الأقوى، وسر اعتزازه الشديد بنفسه، فلم يكن أحد فوق رأسه، وحتى خصومه كانوا يدركون حجمه وقوته تمامًا.

مَن خصوم أمل؟

كل الأدعياء، وليس المختلفين، فقد يكون هناك من يختلف معه سياسيًا مثلا، لكنه صديقه، فالاختلاف ثقافة، أما الادّعاء فرياء.

عبلة دون أمل.. هل كان المسار ليختلف؟

لا أستطيع القول إن أحدًا يرسم مسار الآخر، التقيتُ أمل وأنا صحفية، هذه خطوة كنت قد قطعتها في مساري بالفعل، وقبل ارتباطنا كنت في أكاديمية الفنون، أدرس الدراما، تخصص مسرح، ثم درست العمل النقدي المسرحي، وبعد وفاته استمر المساران معي، لكن بالتأكيد في حياتنا جميعا شخصيات أحدثت تأثيرًا كبيرًا، وأمل أحدث زلزالا في حياتي.

لماذا أمل؟

لم أرتبط به لأنه شاعر كبير، لكن لأنه إلى جوار موهبته الشعرية الباذخة، كان يملك موهبة إنسانية أكثر بذخًا، كانت تدفع أصدقاءه ومن يعرفونه، للفخر بصداقته طول الوقت، حتى بعد رحيله، لأنّه من الصعب ألا تتوقف أمام إنسانيته وتتأثر بها، فهو شخص شديد الصدق وشديد الحرية، لا يتعالى ولا يكذب ولا يتواطأ، وقيمه الحقيقية تجدها في شعره، فهو يكتب نفسه، ولا يمكن فصله عن قصائده، ولا يريد أي شيء غير الشعر، ولا يعمل أي شيء سواه، لماذا أمل؟ لعلي وجدت من يفوقونه ماديًا بكثير، وربما يكونون حلم أي فتاة، لكني لم أجد أحداَ بمثل قِيمه، واعتزازه بنفسه، وإنسانيته، الإنسانية كانت كلمة السر بين قلبي وقلبه.

……..

لم أكن أريد أن أمضي، أو ينقطع بيننا الحديث، لكني كنت أدرك أن وقتها ثمين، كما أن استعادة الذكريات أنهكتها، وأدخلتها، كما أتصوّر، في حالة بين اليقظة والحلم، وفتحت عليها أبواب عالم ثري، أحسبها تود أن تمضي فيها وحدها الآن.

نهضتُ على مضض، فاستوقفتني، وأسرعتْ لغرفة داخلية، ثم عادتْ بنسخة من كتابها الشهير “الجنوبي”، الذي سردتْ فيه قصة حبّها لأمل، ولحظاتهما الأخيرة معًا، تحت جناح المرض، الذي اقتنص الروح المتمردة في 21 مايو عام 1983م، وكتبتْ لي إهداء، أطالعه بفخر كلّما اشتقت لرؤية اسمها واسم حبيبها في مكان واحد، وتحته بقليل اسمي، لأجلس في حضرتهما، ولو بالخيال، لحيظات، تروي روحي بمحبّة و”أمل”.

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى