المنطقة الحرة

محاكاة النهاية

محاكاة النهاية نظر إلى ساعته وأراد لو يوقف الزمن، كان ينظر إلى عقرب الثواني برعب، باقٍ من الزمن ثلاث ثواني قبل أن يبدأ العد التنازلي لآخر أربعة وعشرين ساعة في الحياة!

طالما سأل نفسه: ماذا بعد موتي؟ كانت إجابة السؤال هو كفاح طويل لنحت حروف اسمه عميقًا في صفحات التاريخ. مقابل ذلك، كان يعلم أنه يدمر حياته، بل إنه لا حياة له أصلًا، عكف على صنع سيرة طويلة، وعلم باق يضمن له الخلود، ولكن النهاية جاءت مبكرة، ليست نهاية حياته وحدها، ولكنها نهاية كل شيء على الأرض.. إنها نهاية الأرض نفسها!

تساءل: هل ستُهدَم الأهرامات، وتضيع المعابد والأديرة والمساجد؟ أين سيذهب التاريخ؟ ومن يرويه؟ وما الدليل على أننا كنا موجودين!

منذ ست سنوات، عندما اجتاح العالم فيروس كورونا وحَصَد الأرواح، وباتت العائلات في حالة عزاء مستمر، شعرنا أنها النهاية، واعتدنا الفقد والنهايات المأساوية إلى أن اعتُمدت اللقاحات وبدأ العالم استعادة الحياة الطبيعية بشكل شبه كامل منذ نحو ثلاثة أعوام ونصف. والآن، قاتل عالمي جديد، سوف يحصد الأرواح كلها في آنٍ واحد!

***

محاكاة النهاية منذ أسبوعين بدأت أخبار اصطدام نيزك بالأرض الانتشار على مواقع التواصل الاجتماعي، لم يهتم أحد بتلك الأخبار، ليس هناك أي تصريحات رسمية كما أن الكل اعتاد انتشار مثل تلك الأخبار ثم يتضح أنها أكاذيب، ورغم أن تلك المرة كانت مختلفة إذ ازدادت الأخبار وتدفقت من خلال مصادر ذات موثوقية متهمين الحكومات بالتعتيم، فإنه لا أحد صدَّق تلك الأخبار تمامًا تطبيقًا لقصة الراعي الكاذب والذئب.

لم يطل التكذيب وعدم الاهتمام، إذ بدأت وكالات الفضاء إصدار تقارير وعقد مؤتمرات صحفية، مما أحرج الحكومات واضطرها للإفصاح عن الأمر.

وتأكدت بالفعل احتمالية اصطدام نيزك بالأرض، وكان عليهم أولًا التأكد من خلال عمليات النمذجة والمحاكاة لعدد من احتمالات توابع الاصطدام. بسرعة جريانه في الفضاء، قُدر الوقت المتبقي قبل الاصطدام بنحو اثني عشر يومًا. أعلنوا أن عملية المحاكاة ربما تستغرق أكثر من يومين باستخدام أكبر الحواسيب والخوادم السحابية ذات المعالجات الجبارة إذ يمكنها إنهاء عدد كبير من محاكاة الاحتمالات بدءًا بالاحتمالات الأسوأ. ثم أُعلن الخبر للعالم كله أنه ليس هناك احتمال أسوأ، لأن الاحتمالات جميعها تؤدي إلى نفس النتيجة؛ دمار شامل، لن ينجو كائن حي واحد.. حتى الأميبا!

 وتساءل العالم كله: هل من حل؟ محاكاة النهاية

أجابت الأخبار أن وكالات الفضاء كلها تعمل على حل من خلال إطلاق مركبتين فضائيتين يمكنهما حمل عدد من صواريخ الدفع، ستهبط تلك المركبات على النيزك، وسوف يجري تثبيت عدد من الصواريخ الدافعة التي ستغيِّر مسار النيزك بعيدًا عن الأرض، كذلك سوف تُطلَق مركبتان مجهزتان بأجهزة ليزر فائقة الشدة، تتبعان مسارًا خلف النيزك لتعملان على شطره، لتعظيم قدرة الصواريخ الدافعة على تحقيق الانحراف المطلوب.

الإطلاق كان مُخططًا في اليوم الرابع قبل الاصطدام من عدد من منصات الإطلاق في ولايات فلوريدا وتكساس، المركبات الفضائية التي يمكنها حمل الصواريخ والمزودة بأجهزة الليزر كانت أمريكية لدى وكالة ناسا ضمن برنامج معد مسبقًا لمواجهة مثل هذا الخطر.

في صباح اليوم الخامس قبل الاصطدام، استيقظ العالم على خبر سقوط شظايا نيزكية ضربت غرب المحيط الأطلنطي وشرق المحيط الهادي  وخليجي المكسيك وكاليفورنيا!

الشظايا دمرت مساحات شاسعة حرقًا وتدميرًا وغرقًا حول خليج المكسيك في عمق أكبر من مئتي وخمسين كيلومترًا، مما تسبب في دمار هائل لولايات فلوريدا وجورجيا وألاباما وميسيسبي ولويزيانا وتكساس ونيو مكسيكو وأريزونا وكاليفورنيا الأمريكية، كان على أثره تدمير مركز كينيدي التابع لوكالة ناسا في ولاية فلوريدا، وعدد من منصّات الإطلاق التابعة له، بالإضافة لمركزي هيوستن للفضاء ومركز لندون بي جونسون للفضاء بهيوستن في ولاية تكساس، والمكسيك نفسها.. بشكل شبه كلي.

عندها تأكدت الحقيقة، ليست هناك فرصة، لقد انتهى الأمل للأبد!

وفجأة تحوَّل العالم كله إلى بقعة ظلام، أرض ومبان خربة؛ إذ توقفت محطات الطاقة، وانقطعت الاتصالات بجميع أشكالها، وتوقَّف البث التليفزيوني وإرسال الراديو، وكل أنواع المواصلات، ومحطات تنقية المياه، ومحطات رفع مياه الصرف، والمستشفيات، والبنوك، والبورصات، وانهارت العملات الرقمية!

ظهر العالم كله بأيدٍ فارغة، كل العلم والصناعة وما وصل إليه طموح وغرور الإنسان وقف عاجزًا عن صد الخطر! واستسلم العالم بين أنياب الخطر بعدما تأكد أن المقاومة لن تزيده إلا ألمًا.

تَوَقُّف كل شيء حَوَّل الأيام الأخيرة في حياة الكوكب إلى مهانة؛ لا مياه، الفضلات ملأت الشوارع، الظلام الحالك، كل شيء توقف، فقط الخوف من مواجهة النهاية هو ما كان يتحرك! جثث في الشوارع لمن أنهوا حيواتهم بأيديهم بدلًا عن الموت بالأشكال التي سينفّذها النيزك ببراعة.

رغم توقعات الفوضى، فإن العالم كله اتفق دون اتفاق على مقابلة النهاية بهدوء، الجميع احتموا بمنازلهم وبذويهم.

***

محاكاة النهاية بينما يحتمي بمنزله وحيدًا ينتظر النهاية وهو ينظر إلى ساعة يده! تساءل مستنكرًا: هل تلك هي النهاية؟ أحقًا.. لا شيء سيبقى؟ هل أفنيت حياتي من أجل لا شيء! اللعنة.. إنه الموت بالنار والدمار والأمواج، ثم جهش بالبكاء الهستيري!

طالما فكَّر في ما بعد موته وكيف سيبدو العالم، حاول محاكاة الصورة بكل أبعادها، وتخيل سيرته المستمرة واقتباسات أبحاثه تتضاعف في الأوراق البحثية، ربما تُصنع له تماثيل أو يطلق اسمه على أحد الشوارع أو الميادين.

ثم سأل نفسه مجددًا: كيف سيبدو العالم دون أي شيء؟ حاول التخيل، ولكن ذهنه عجز عن ذلك!

تخيَّل لحظة الاصطدام، كيفية انهيار كل شيء، الأجساد وهي تتهشم أو تتبخر أو تجرفها الأمواج ذات الارتفاع الشاهق!

ثم فكَّر في ابنته حيث تعيش في بولندا، ورغم مكالمته لها قبل انقطاع الاتصالات، فإنه لا فرصة الآن لوداع أخير! لا إنترنت ولا اتصالات، لا شيء على الإطلاق!

ابتسم ساخرًا ولعن أبحاثه التي جعلته يشعر أنه يفعل المستحيل لإنقاذ الكوكب من البلاستيك الميكروني وزيادته أطنان البلاستيك في البحار والمحيطات والمسطحات المائية، الآن الكون يحكم على هذا الكوكب بالإعدام، ليست هناك فرصة أخرى للإصلاح، حصل الكوكب على عديد من الإنذارات ربما يتوقف عن العبث؛ عنصرية، حروب، صراعات، أوبئة، مرض، فقر، جهل، والآن نفد رصيد الإنذارات!

فجأة سمع صوت ارتطام شديد، ثم صراخًا عاليًا، ودفعه الفضول لمعرفة ما الذي يحدث بالخارج، كان صوت ارتطام صديقه وجاره يحيى الذي ألقى نفسه من شرفة منزله، لاحقًا بمن سبقه، وسابقًا من لحق به من مستثمرين العملات الرقمية. ثم عاد إلى متابعة النظر إلى ساعة يده، دون أن يظهر عليه أي علامة للتأثر لفقدان صديق عمره!

قال لنفسه: أريد أن أموت بكرامة، أريد مدفنًا، كنت أتمنى شاهدًا لقبري يُكتب عليه اسمي مسبوقًا بلقب أستاذ دكتور. لم يتبق الكثير، وقرر الذهاب إلى مقبرة عائلته!

التحرّك بالسيارة في شوارع فارغة وسط كل هذا الهدوء سيسبب فزعًا عظيمًا، وقرَّر الذهاب مترجلًا، وكاد الهدوء يثير جنونه حتى إنه تعمَّد ضغط حذائه وحكّه بالأرض لإحداث صوت يؤنسه.

***

محاكاة النهاية وصل إلى مقبرة عائلته وفتح البوابة ودخل فاقدًا الإحساس بكل شيء حتى وصل إلى الباب الحجري المؤدي لغرفة الدفن بالأسفل. أزال التراب والأحجار حتى انفتحت طاقة متصلة بالغرفة السفلية بممرٍ للأسفل، وتوقف!

ظل في مكانه متيبِّسًا، ولم يحرِّك ساكنًا فترة، وفجأة نزل للأسفل كأن قوة خفية تقوده، لم يستطع تمييز مَن بداخل الأكفان، ولكن من يرقد بهذه الغرفة كان جده وعمه وأبوه، ربما يرقدون بالترتيب، ولكن من أي ناحية؟ وقال: ما هذه الترهات، من يهتم!

لم يستطع غلق القبر من الداخل بشكل كامل، وأزعجه شعاع الضوء النافذ. تجاهل كل شيء وحاول الاسترخاء في حضرة عظام عائلته. اضطربت أنفاسه وتقافز قلبه داخل صدره، كاد يحطم ضلوعه أو ربما فعل.

استلقى في استسلام، ووضع أبحاثه المحفوظة بعناية في غلاف بلاستيكي تحته، وتأكد من إحكام الجراب الحافظ لقرصه الصلب ووضعه بعناية إلى جواره. استرخى ونظر إلى ساعة يده، باقٍ من الزمن أربعون دقيقة، ثلاثون، عشرون… أربع ثوان، ثلاث، ثانيتان، واحدة!

محمود لطفي


اقرأ أيضًا:

أنا لست أمًا لأحد..

لذة البذاءة

نص | لم تكن ملاكًا ولم أكن!

خشونة الدعوة إلى الله!

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى