“الشحاذ”.. سيرة الأوهام المحرقة والهزائم المتلاحقة
”ما أجمل كل زمان.. إلا هذا الزمان“ الشحاذ
عمر الحمزاوي، بطل رواية ”الشحاذ“ من أكثر شخصيات نجيب محفوظ قربًا إلى قلبي بعد أنيس زكي وعيسى الدباغ وصابر الرحيمي. بدأت حالة الاكتئاب التي أصابت عمر الحمزاوي المحامي الكبير ذات يوم كان مجتمعًا فيه بأحد موكليه المتنازعين على أرض تقع في أكبر ميادين وسط البلد، وفي نهاية الاجتماع قال له الرجل:
– أنا ممتن يا إكسلانس.. أنت محيط بتفاصيل الموضوع بدرجة مذهلة حقيقة باسمك الكبير.. وأملي في كسب القضية عظيم.
ضحك الرجل بسرور لا حد له فشعر عمر بغيظ وقال:
– تصوَّر أن تكسب القضية اليوم، وتملك الأرض، ثم تستولي عليها الحكومة غدًا.
فهز الرجل رأسه في استهانة:
– المهم أن تكسب القضية.. ألسنا نعيش حياتنا ونحن نعلم أن الله سيأخذها؟
وهنا ازدادت حدة اكتئاب عمر أكثر بعدما تيقن أنه يكسب جولات اليوم ويحرم منها مستقبليًا، يعيش حياة سيأخذها الله منه بعد عمر طال أو قصر، يظل طوال عمره يكسب قضايا غيره، ويفوز بانتصارات زائفة، يكسب قضايا غير قضيته، وتطرق قضيته أبواب نجاحات المجهولين، استيقظ وعيه وأدرك الحقيقة الخبيئة وعجز عن الوقوف بخطى ثابتة؛ فلا أحد يدرك الحقيقة ويعرف بعدها للحياة طريقًا يسلكها منه.
حينها، كان منتصف الستينيات، وكان عمر الحمزاوي في الخامسة والأربعين، وبعدما لاحظ تغيرًا خفيًا لا يعرف له سببًا، بعدما تأثر بكلام الرجل. ماتت رغبته في العمل، فهو لا يريد أن يفكر أو يشعر أو يتحرك، وبدأ الاعتذار عن لقاء موكليه، وقال له الطبيب:
– أنت رجل ناجح.. ثري.. نسيت المشي أو كدت.. تأكل فاخر الطعام، وتشرب الخمور الجيدة.. وتجهد نفسك لحد الإرهاق.. ودماغك دائمًا مشغول بقضايا الناس.. ليس بك مرض.. أو ما بك مرض برجوازي ولكني أرى في الأعماق مقدمات لأكثر من مرض، عند الإهمال سيدهمنا الخطر الحقيقي.. اعتدل في الطعام وقلل من شرب الخمر.
فيرد عمر:
– ألم يخطر لك يومًا أن تتساءل عن معنى حياتك؟
فيضحك الطبيب عاليًا، ويقول: الشحاذ
– لا وقت عندي لذلك.. وما دمت أؤدي عملي.. فما يكون معنى السؤال؟
أحس الحمزاوي أن روحه كما الجنين المجهض، وأن قلبه قد اختنق بالبلادة والرواسب الدسمة، وأن أزهار الحياة قد ذبلت وقوائم الوجود قد انهارت.. ولم يبق له إلا أن يتسول لحظة نشوة بين أحضان امرأة، لعله يجد فيها إجابة للسؤال الذي يشغله عن معنى وجوده..
تذكر شبابه وحلمه أن يكون شاعرًا وديوانه الذي أصدره في شبابه، فهجر الشعر؛ فلا أحد استمع لغنائه، لكنه على أي حال تذكر الشعر، وارتبط الشعر بالحب، وكانت البداية نظرة خاطفة من عينيها الخضراوين، صعقته.. فهام بها، ودفعه العذاب إلى الشعر ودفعه الشعر إلى الحب وسحت من عينيه دموع وتوثقت أسبابه بالسماء.. ترصدها إلى أن خرجت من الكنيسة وتعرف بها.. وحين ثارت الزوبعة في بيته وبيتها نظر في عينيها بافتتان وقال:
– الحب يهزأ بالمخاوف..
فقالت:
– ولكن أهلي..
قال:
– أنا أهلك.. أنا كل شيء.. وستقوم القيامة قبل أن يتخلّى عنك حبي.
تظاهرت أيام الحمزاوي أنها على صواب بعد الزواج من كاميليا فؤاد التي غيَّرت اسمها إلى زينب، لكن سرعان ما انقضت الأيام وأمرضه الترف، وغرق في المواد الدهنية، ومضت وانتهت أيام الحب وجاء الضجر وصرخت في وجهه بأنه كان طوال تلك السنوات يقف فوق قمة من الرمال المتحركة التي سرعان ما انهارت به. يذهب إلى صديقه الدكتور مصطفى زميل السياسة والأحزاب والمدينة الفاضلة والأحلام، فيقول مصطفى:
– ما أجمل أيام زمان!
فيجيبه:
-ما أجمل كل زمان باستثناء الآن!
عرف الحمزاوي طريق الملاهي الليلية بحثًا عن شيء غامض لا يعرفه هو نفسه، ودليله إلى ذلك رفيق النضال والخيبة مصطفى المنياوي.. وبعد أيام من استئجار جرسونيرة خصصاها للراقصات، يزحف الملل بعد اكتشاف أن نشوة الحب لا تدوم، ونشوة الجنس أقصر من أن يكون لها أثر.
ذات عصر يفاجأ الحمزاوي بصديقه الغائب عثمان خليل في يوم الإفراج عن سجنه وسرعان ما قامت الثورة وقال الحمزاوي:
– قامت الثورة تشق طريقها إلى اشتراكية لا شك فيها.. وهي إن لم تمس رءوس أموال أمثالي من الناس فقد فرضت ضريبة عادلة..
فيرد مصطفى:
– الدولة الآن اشتراكية مخلصة.. وفي هذا الكفاية.
يهمهم عثمان:
– أتذكّر ما ضاع من عمري بين جدران السجون، الإنسان إما أن يكون الإنسانية جمعاء أو لا شيء.
يقول عمر الحمزاوي لنفسه: لماذا أتعب نفسي في أمور لا تهمني!
يقود سيارته إلى جولات بلا هدف، يدخل مكانًا ليسكر، يجلس في مقهى لينام، يشيع جنازة ميت لا يعرفه، يستأجر منزلًا ريفيًا ليعيش فيه كزاهد أو متصوف أو راهب تزوره الأحلام والكوابيس، لا أحد معه في الظلام إلا النجوم في انتظار النشوة المستحيلة.
بعد عام ونصف العام من الاختفاء، تقتحم الشرطة المكان وتلقي القبض على عثمان خليل وتنطلق رصاصة طائشة فتصيب عمر الحمزاوي في كتفه إصابة طفيفة، ويفتح عينيه ليجد نفسه في سيارة الشرطة.. ويخامره شعور بأن قلبه ينبض وأنه عائد إلى الدنيا، ويقفز في ذاكرته بيت شعر لا يذكر متى قرأه وأي شاعر غناه، يقول:
– إن تكن تريدني حقًا.. فلم هجرتني؟!
اقرأ أيضًا:
الألفا.. 36 مبدعا يكتبون عمر طاهر (متاح للتحميل)