عصابة أخوات كان
في إحدى الحارات الشعبية، كانت عصابة “أخوات كان” تسير حاملة النبابيت، يركلون بعض الصناديق الفارغة مثيرين حالة من الهلع، بينما تصيح “كان” بصوت جهوري غاضب: “هو فين؟”. تقفز حروف الجر بعيدا عن طريق العصابة وتستتر الضمائر داخل بيوتها، قبل أن تصل العصابة إلى أحد المقاهي الذي جلس عليه “المبتدأ” حزينا، إلا أنه قام منتفضا حين وجد “كان وأخواتها” أمامه.
“مالك مين مزعلك يا مبتدأ؟”.. هكذا صاحت “كان”، فانهمرت الدموع من عيني “المبتدأ” قائلا:
– أنا يعملوا فيا كده؟ بعد الزمن ده كله يخلوني منصوب بالفتحة؟
– هما مين دول؟ انطق اتكلم.
– “إن وأخواتها” بهدلوني ومرمطوني.. أخدوني معاهم وقولت ماشي.. إنما يخلوا “الخبر” مرفوع وينصبوني أنا؟ أنا؟
تصاعدت صيحات الغضب من عصابة “أخوات كان”، قبل أن تسكتهم “كان” بإشارة من يديها قائلة بصوت تعمدت أن يسمعه جميع من في المنطقة:
– المبتدأ ده يبقى تحت حمايتنا.. واللي يقرب له يبقى قرب مننا إحنا.. ومن هنا ورايح يا “مبتدأ” رجلك على رجلنا.. و”الخبر” معانا هيبقى منصوب وأنت هترجع مرفوع تاني.. واللي عنده كلمة يبلعها.
تهللت أسارير “المبتدأ” وأخذ يصفق بيديه جذلا، وهو يحتضن العصابة فعل فعل، وانتهت القصة بالنهاية السعيدة المرجوة.
****
ما فات ليس جزءا من قصة نسجها خيالي، بل محاولة لإعادة حكي قصة قديمة، استعملها مدرس اللغة العربية في مدرستي عندما كنت في الصف الثالث الابتدائي، كي يشرح لنا درس “كان وأخواتها” بأسلوب مبسط.
التفاصيل ربما تختلف قليلا عما حكاه الأستاذ، لكن القصة قفزت إلى رأسي عندما طلب مني الصديق العزيز حسام مصطفى إبراهيم أن أكتب مقالا عن أساتذة اللغة العربية وذكرياتي معهم عبر مراحل التعليم المختلفة، وهو الطلب الأصعب على الإطلاق، والفضل لذاكرتي، حيث لم أتذكر إلا تلك القصة فقط!
لا أتذكر اسم الأستاذ، إلا أنني أذكر جيدا لهجته الصعيدية التي كان يحكي بيها هذه القصة، ويتكلم بها عموما، وتلويحات يديه النحيلتين مع غضب عصابة “أخوات كان”، والسعادة التي كان يرسمها في عينيه القابعتين خلف نظارة طبية سميكة للغاية، عندما يصور لنا فرحة “المبتدأ” بمن سيعيده مرفوعا مرة أخرى كعادته.
لا أذكر اسم الأستاذ الفاضل، لكنني أذكر جيدا قصته التي طبعت قاعدة كان وأخواتها في رأسي وقتها، بل وجعلتها من أكثر القواعد اللغوية ثباتا في ذاكرتي، التي لا تتميز بالقوة على الإطلاق.
أتمنى لو أن أستطيع الوصول إليه -إن كان لا يزال حيا- لأخبره كم أحمل له من امتنان، فقط لأسلوبه المختلف عن بقية الأساتذة ممن كان لهم أثر سيء على اللغة العربية، وجعلوا منها مادة ثقيلة على قلوب تلاميذ صغار، ما يجعلنا نرى الآن ثمار ذلك من أخطاء لغوية وإملائية مريعة، إلى جانب تفشي الجهل البشع بأبسط القواعد النحوية بين كثير من الناس هذه الأيام.
****
بعد مرور سنوات عديدة تفوق العشرين، عملت مدرس لغة عربية لغير الناطقين بها، وهي فرصة جميلة لتعليم غير العرب هذه اللغة الجميلة والثرية، وتجربة قيّمة لتبادل الثقافات. وفي ذلك اليوم كنت على موعد مع تدريس قاعدة “أخوات كان” لمجموعة من الطلاب.
دلفت إلى الفصل وبدأت في الاستعداد لشرح الدرس، قبل أن أتذكر قصة عصابة “أخوات كان” التي أعادت الهيبة للمبتدأ ونزعت عن الخبر ضمته وجعلته منصوبا، فاعتدلت في وقفتي وبدأت أحكي لهم القصة بما تيسر من كلمات سهلة بالعربية يمكنهم فهمها.
كانت المتعة تعلو وجوه الطلاب الأجانب، وهم ينصتون للقصة ويتأثرون معها. وبينما كنت أراهم كذلك أمامي، دعوت الله أن يجازي أستاذي الذي نسيته خيرا عن تلك الطريقة التي زرعها فينا، فوجدت طريقها إلى مجموعة من الطلاب من مختلف دول العالم، ولعلها تجد طريقها عبر أحدهم يوما ما في بلد آخر.
أيا كنت يا أستاذي.. حي أم ميت.. لك مني خالص تقديري وامتناني وشكري واحترامي، وأدعو الله أن يجازيك خيرا عن رسالتك التي حاولتَ تأديتها على أكمل وجه، ويبدو أنك نجحت في ذلك.
عمرو عز الدين – صحفي وروائي
اقرأ ايضًا: